( واحد – اثنان – ثلاثة )
تأملها.. سربلها بفيض من الهدوء النفسي.. أرسل صمته إلي عينيها.. فأنفرطت الذكريات الصغيرة تتقافز فوق شفتيها.. إعتدل في جلسته.. ألقي إليها قراره: هناك ثلاث طرق للعلاج.. و من المؤكد شفاؤك:
۱- الغمر
تصعد درجات السلم.. لا تميز جيدا بين صوت كعب الحذاء و دقات قلبها التي ترتجل لحن خوف شديد الضجر.. دلفت من الباب.. قابع خلف مكتبه.. أمامه شرائط كاسيت كثيرة.. كتب صفراء قديمه.. نادي علي الممرضة: هل طبيب التخدير موجود ؟ طبيب القلب ؟ .... هيل بنا إذا .
سار الموكب.. الممرضة.. المريضة.. الاطباء.. أمام الغرفة المعدة.. القوا بها داخلها.. اغلقوها.. أضاءوا الأنوار الكاشفة .
_ فئران.. فئران.
لم يكن هناك من يستمع لصراخها.. الأضوء تتقلب فوق ملامح الفئران المذعورة.. همست :
انها رسومات.. اخاف حتي الرسومات.. افتحوا الباب.. طرقاتها تستنجد بهم.. خلف الطاقة الزجاجية رأس الممرضة تطل على خوفها و هي تركض.. يسابق رعبها ذعر الفئران.. قبل أن ترتطم بالأرض.. أطلقت الممرضة فأرين من ثغرة بدت كأنها بئر عميقة السواد.. رأتهما يمرقان أمامها.. تصبب العرق.. أغرق اللوحات و الدمي.. سقطت و يدها ممسكة " ببوستر" كبير لفأر يداعب قطة.
إنزاح الستار.. حملوها و كانت غائبة عن الوعي و نبضها يكاد يتوقف.. من لحظة الإفاقة كانت تقول:
_ لا أريد العلاج بالغمر.. كيف أغمر في حجرة مليئة بالفئران ؟! لا.. لا.. واصلت الإغماء.
٢- خطوة.. خطوة
عادت تشد قدميها نحو مكتبه.. يداعب دمية جميلة لفأر ذي فراء جميل.. قال لها: ملسي عليه .
فعلت.. سألها.. هل عضك الكلب؟ ضحكت حتي مالت بسمتها و ارتكزت فوق فمها.. خمدت كمن تذكرت شيئا ثم هتفت:
_ غمر مرة اخري يا دكتور؟! ..لا.
هبت واقفة.. أجلسها :
_ بل العلاج بهدوء.. خطوة.. خطوة.. وأنت ستعالجين نفسك.
_ كيف؟!!
_ ستشترين دمية لفأر.. و تضعينها في مكان معلوم لك تشاهدينها كل يوم.. و في كل مرة تقتربين منها قليلا حتي تمسكي بها بين أناملك و تحاولين رسمها و تأملها و في النهاية تتمكنين من التماسك عند رؤيتك للفأر.. و لا يحدث لك ما تشكين منه .
أغمضت عينيها تسترجع ما قاله: دمية.. فأر.. أرسمه.. تذكرت.. دكتور أين كنت عندما القوا بي في الحجرة.. أقصد عندما غمروني؟
_ نعم.. دعينا من هذا .
في الصباح.. ذهبت لبائع الدمي.. هناك وجدته.. اهتزت الأرض تحتها.. قفزت خارج المحل.. سألت البائع أن يلف لها واحدا في علبة.. و في المنزل
وضعته فوق منضدة مرتفعة.. و كلما مرت نظراتها من فوقه تردد لنفسها : مجرد دمية.. لا تخافي .
أحيانا تنسي انه دمية تفقد الشعور بقدميها.. و يهاجمها في حلمها فار بذيل طويل يلفه حول رقبتها.. تصرخ و هي تختنق , بينما أسنانه الحادة تقرض سنوات عمرها في نشوة.. مؤكدة أنه مجرد كابوس.. مجرد دمية.. لا داعي للخوف بعد أسبوع من التمرين المستمر (خطوة- خطوة) دخلت حجرة نوم أطفالها.. وجدته فوق سريرهم.
- يريدون إخافتي.. يالهم من شياطين صغيرة.. سوف أفاجئ الجميع.
أمتدت يدها للدمية.. ركضت أمامها بسرعة و أختفت.. تجمدت ساقاها و عيناها علي المكان الخالي.. لم تكن الدمية إنها فأر.. جاءت سقطتها عنيفة, رقدت في الفراش ثلاثة أسابيع.. حتي يشفي الشرخ الذي اصاب قدمها.
۳- العودة
هذه المرة جاء الطبيب زائرا يحمل حقبيته, سألها و هو يجلس بجوار فراشها.. ضاحكا مما أصابها: هل تعرفين ما بداخل الحقيبة؟ حدجته..اعتدلت فى جلستها.. و ملامح الخوف تلونها بألف لون.. صاح الطبيب مسرعا:انه دواء سيعيدك طفلة عمر خمس سنوات..وقتما حدثت لك العقدة نعم ستخدرك الحقنة.. و تنام ذاكرتك إلا عن تلك الحادثة و ستحكين..قد تصرخين .. تبكين.. تفعلين ما عجزت وقتها عن فعله… خوفك الشديد من الفار-المخلوق الضعيف- لعدم قدرتك على التصرف لكونك طفلة ذات خمسة اعوام تستيقظ لتجد فوق صدرها فأرا كبيرا. شىء مرعب مرعب.. بل عدم قدرتك عن تفريغ الشحنة كفيل بالقضاء على أشياء كثيرة جميلة داخلك.. ستحاولين معى.. سنحاول معا تذكر ما حدث.. هيا.. اصرخى.. أمسكى الفأر بيديك القى به.. هيا.. هيا..
و بينما تتذكر و تبكى وضع الفأر الدمية فوق صدرها .. فجأة صرخت:
كان فأرا كهذا .. أمسكت الدمية من فوق صدرها حاولت تمزيقها.. القتها.. بحلقت:
-لا.. لا بل كهذا.
أشارت تحت قدمى الطبيب الذى هب واقفا فوق المقعد صارخا :
- ابعدوا هذا الشىء.. ابعدوه!!
القصه مهداه للصديق
د/عاطف عبد السلام
استشارى الامراض النفسيه و العصبيه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق