رائحة رجل


هن ...


رائحة رجل

دفعت بالتذكرة داخل ماكينة المرور، دارت الأذرع ، تلقفتنى إلى الجهة الأخرى، بسؤال
 بسيط عرفت أننى فى المكان الصحيح.. دقائق و علا صرير العجلات ، ولجت إلى العربة بقوة الدفع .. تأملت المقاعد ، شعرت بخيبة أمل .
  هل أظل واقفة إلى حلوان ؟
لم يبد السؤال خارج حدود جسدى الذى ترنح ..كاد يسقط ؛ لولا يدان خشنتان إمتدتا لنجدتى .نظرت إليها مبتسمة شاكرة جميلها .جذبتنى نحوها بقوة غريبة على إمرأة، قامت و أجلستنى مكانها .شكرتها مجددا ..كانت قد إنصرفت عنى بنظرها .
أسندت ظهرى .. أرسلت عينى تتفحص المكان . هذه هى المرة الأولى التى أركب فيها وسيلة نقل عام.. ومترو الأنفاق مغامرة كبيرة بالنسبة لى ؛ فأنا أخاف الأماكن المغلقة ، لكننى تحاملت على نفسى وطمأنتها بأن معى مئات البشر .
عدت أتأمل الوجوه فهى ما جئت من أجله .. قال لى زميلى :
- أطلقى حاستك كمبدعة وسط آلام الناس ،كونى منهم تتفجر عيون الإبداع لديك، لن تعانى حالة الجفاف تلك . لقد نفد مافى ذاكرتك من مخزون ، عليك بشحن خيالك و لن تجدى هذا فى حياتك المخملية ، لن تجديه فى المقعد الخلفى من سيارتك .. و خلف زجاج نظارتك " السينيه " .
دفعنى الفضول للتجربة .. سأصل لآخر محطة فى حلوان . أنا لا أعرف هذه المنطقة ، ولا أعرف أى منطقة ، لو نزلت من المترو .
حمدت الله فى سرى لأننى سأعود بنفس التذكرة ولن أضطر لمغادرة الرصيف و أعرض نفسى ثانية للسؤال . عدت لملاحقة الأوجه المتعبة .. تخيرت ساعة الذروة كما يقولون، المكان يكاد يختنق .. وتلك المرأة المترهلة التى تجلس بجوارى تحمل كيسا به سمك .. و خبز ، اشتهيت طعمه .. رغم إنزعاج أنفى .. فإن معدتى تلوت جوعا .
سامحك الله .
هكذا إنفلت لسانى .. تلفت حولى خشية أن يكون هناك من سمعنى . لا أحد الكل مبحر مع أفكاره عبر النوافذ .
تعثرت عينى ثانية فى السيدة التى جذبتنى من يدى .. كانت ملتصقة بإحكام بالشاب الواقف جوارها ، تنتهز فرصة إهتزازات المترو و تلقى بوجهها كاملا فوق ذراع الشاب .. ينظر إليها معتذرا فى أدب .. تبتسم له إبتسامة لزجة .. تعود بعد قليل لنفس السلوك .
 أتكون لصة ؟
قبضت على حقيبتى .. ضممتها لصدرى .. تعلقت عينى بها جذبنى فضولى للركض خلف أنفاسها المتقطعة .. صدرها يعلو .. ويهبط .. تعب الهواء فى صدرها .
أتكون مريضة و آثرتنى على نفسها ؛ هممت :
تفضلى يا مدام إرتاحى قليلا .. سأقف .
هزت رأسها نفيا ودفعتنى باليدين المتشققتين :
-اقعدى .. لا أريد الجلوس .. "مدام .. قال..مدام " .
ألجمنى الصمت ؛ عندما توقف المترو فجأة فألقت بنفسها تحت إبط الشاب المرفوع ممسكا بالأذرع المدلاة من سقف عربة المترو ..أنزل الشاب ذراعه كاد يسقط فالتقطته لصدرها .. إعتذر الشاب فى أدب .. حاول الأبتعاد خطوة .
إنتبهت على حدقتى عينى تكادان تتمزقان من شدة الإتساع . عاد سؤالى يتأرجح على لسانى :
 أتكون لصة ؟
حاولت أن أستفسر من عيون الناس السارحة بعيدا .. دارت عينى سقطت على الشاب الذى تهلل وجهه عندما وجد مكانا خاليا .. هرول .. جلس عليه مبتعدا عن ذات اليدين الخشنتين . إنكسار باهت علا وجهها الأبيض الذى سرى النمش به كأنه قاصدا تعكير هذا الوجه .
أصبحت السيدة محشورة بين إمرأتين .. زاد إرتباكها .. تخلصت من جوارهما ، أصبحت الآن أمام الشاب ثانية .. مالت نحوه ، همست فى أذنه بكلمة ؛ تغضن وجهه ، قطب جبينه ، هز رأسه رافضا .
زادنى هذا فضولا ..ماذا قالت له ؟!
السيدة تفرك يديها بعصبية شديدة .. فتحت كيس بلاستيك أنيق فى يديها .. دفعت به إلى الشاب الضجر ، أدار وجهه مالت بجذعها نحوه ، زفر ، بيدين مرتعشتين حمل كتبه التى كادت تسقط .. غادر المكان ،ظل يمر وسط حشود من التأففات و شذرات الغضب حتى وصل لأخر العربة .
عيون السيدة ذات اليدين الخشنتين تشيعه ؛ وصدرها يهبط كبالون أفرغ منه الهواء ، سقطت مكانه قابضة كفها على خدها .
تمنيت لو يخلو بجوارها مكان ؛ لأنتقل إليه ، لا أمل كأن كل الركاب ذاهبون معى إلى حلوان .. المترو لا يقف إلا ليصعد بشر محملين بالشرود .
إنصرفت أبحث عن الشاب .. كان قد اختفى تماما وسط الأجساد الغارقة فى العرق .
سأحاول أن اقرأ ملامح الناس ، سأجد ما داخل رؤسهم مسطورا على جبهاتهم ..هكذا علمتنى أمى .. التجاعيد على الجبهة تعنى شخصا نكدا .. وحول الشفاة تعنى شخصا كثير الضحك .. لكن أبى أردف يومها قائلا :
- ليس هذا دليلا على السعادة والشقاء .. هناك تعساء محرمون يضحكون .
قبل أن أستأنف شحن ذاكرتى بالصور، وقعت عينى على السيدة ذات اليدين الخشنتين .. كانت تتحدث مع الرجل الذى جلس جوارها .. أرهفت السمع :
-         بكم؟ ..ممكن أشتريه منك لو محتاجة تبيعيه .
-          البدل هو ما أريد ، البدل فقط ، هذا قميص غالى مستورد ، أغلى مما تلبسه الآن .. أنظر ..إعطنى قميصك وخذ هذا .. هه .
هز الرجل رأسه رافضا .. أعادت السيدة القميص إلى كيسها الأسود .. نكست رأسها .. فرش الحزن بردته على تقاسيمها ..فلم تعد تحاول ما كانت تفعله .
طغى الفضول على صوت عقلى .. ركله .. دفع به خارج جمجمة رأسى وسحقه تحت أقدام السيدة الحزينة .
إقتربت منها .. سأسألها عما تريده  .. وتفسير لحركاتها .
فرملة المترو قذفت بى لأسقط على حجرها . بخشونة قالت :
-  هيه نقصاك .. أيه اللى قومك .
دفعتنى وأستدارت لتنزل وهى تتمتم :
-  حتى قميص فيه عرق رجل .. لا أجده ..يارب رجل غريب ..عرقه ممكن يكون حلالى ..حسبى الله ونعم الوكيل .. لا الرجل .. ولا ريحته .
طواها الرصيف بينما يحملنى القطار الذى أصبح شبه خال إلا من أسئلة متشابكة فى رأسى .
                                                                                 

                                                                                 أغسطس 2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق