الودع

الودع


ألقت بالودع ..تموج الرمل الأصفر الهادىء . . ثقبته بأصبع نحيلة سوداء .. ماتت البسمة فوق الشفاة المكتنزة .. نظرت بذبول.. و صوتها الهامس يرتعش:
-        كأن قدرك أن تخرج منها يابنى !!
-        مم ؟!
-        ستدعو لك أرحام الثكالى ..لا تتاجر بها .. قد تموت دونها .
-        من هى ؟!!
مدت يدها :
-        " وشوش الدكر " .
رمقته .. تفحصت الرمل ، حركته ، قلبت الودع ، داعبت نتوءاته بأظافرها تمدد كحيوان أليف بين يديها .. دبت شوكته الأمامية فى قلب الرمال ؛ تناثرت زافرة صمتها .. قذفت بالودع عاليا ؛ اختفى .. نظرت للسماء :
-        ابتلعت الشمس أمنيتك .. وهى تغيب – أومأت برأسها- لكنها ستعود .. وغدا يلملم ولدك دنانير الذهب من تحت أشجار الزيتون .. دنانير ترسمها شمس جديدة .. لولد أبى عنيد .. لن يرضيه إلا ذهبها .
-        فسرى !!
-        ما حجب لا يفسر .
-        خذى بياضك .. عشرة جنيهات .
-        ضع نقودك يا فتى هى ما تظن أنك تبحث عنه .... مسكين !!
-        أتريدين دولارات ؟ لست سائحا .. غدا سأمتلك الكثير .
-        لن تعود من سفرتك بالدنانير .
-        دولارات .... دولارات ..لم يعد لدنانيرك قيمة ولا وجود .
أبحرت قدماه فى الرمال عائدا .. اثقلته الحيرة ..لم يدر متى وصل إلى أول الطريق .. أراد أن يكون قبر والده أخر مكان يزوره قبل السفر .. أن يتنفس ملامح الماضى .. فتجرع الخوف .. والحيرة بكلام العرافه .
   -    من الذى القاها بطريقى؟  و أى من كلامك صادق يا امرأة ؟
فردت الأم رموشها أشرعة تحمله ، حجبت دموعها .. تكورت ماسة لا يبتلعها إنسان عينيها و لا تفر فوق الوجنات الساخنة القلقة على حبة القلب فى غربته .
-        " لن أنتظرك يا ولدى " .
قالتها و هى تدير وجهها عنه حتى لايعلم .. أنها بدأت رحلة الأنتظارمنذ قرر أن يحمل آلامه و أحلامه و يرحل عن الوطن المجروح ، القمت أذنيه بعض الدعوات و سرجت له جواد الأحلام .. أطبقت يديه على اللجام و هى تترنم بأخر النصائح :
-  فى البلاد المتزينة ..الباردة .. كل شىء مصقول كسطح الثلج .. لابد أن يمتص حرارة جسدك حتى يذوب .. سيرشقون بسماتهم فى عروقك يمتصون منه ما أرضعتك من ثديى ، يوزعون مشاعرك على الأحلام الثائرة .. يغسلونك ببرودتهم .. فتعود أملسا .. ناعما ، ثلجى النظرات .
ظلت الذاكرة تنبض بكلمات العرافة .. تدور رحى الذكريات فتلقى بالماضى متناثرا فوق ملامح أيامه التى كان يأمل أن تكون جديدة .. كانت أشجار الأرز و الجبال السامقة تشده نحو الشرق , تحت شجر الزيتون الذى كان يقيس طوله عليه ..يوم صار شابا تأمل الشجرة و سأل الجدة  .. متى تكبر ؟
ضحكت : نرمى البذرة يوم مولدك .. ولا يحصد حبها إلا ولدك .
-        لكننا سنرحل ياجدتى خلف أسوارهم الشائكة .. ولن نبقى بجوار شجر الزيتون .
نكست الجدة وجهها .. عانق التراب :
-        الله يبارك فى القادم يا ولدى  .
هبط كلام ضاربة الودع على أحلامه أيقظه من غفوة الليل الثلجى القسمات .. تأمل صورة الأقصى فوق جدرانهم الميتة .. وأعاصير الأسئلة تقتلع فرص الأجابة .. هل أعود حقا ؟ أم يعود ولدى .. و متى تراه سيأتى هذا الولد ؟!!!
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق